قبل اكثر من مائة عام كانو يقولون ان الثري هو من يمتلك سيارة والفقير من يمتلك حصاناً ، ولكن في ايامنا هذه اكتشفنا ان من يمتلك السيارة هو الفقير وان الغني هو من يمتلك حصاناً . اذن المستقبل ذلك المجهول الذي لم نعرف عنه شيئ فقط في افلام الخيال العلمي ، ولكنا في الواقع لا نعرف الى أين يتجه هذا المستقبل؟ وماذا علينا أن نتوقع منه؟ وماهي المخاطر والفرص التي يحملها؟ والأهم هو كيف يكون لنا دور فيه؟
لقد اصبح التفكير المبكِّر فيما سيأتي مستقبلا ً أكثر أهمية من أي وقت مضى، بسبب التسارع في وتيرة التغيرات التكنولوجية والاجتماعية. ففي الماضي كان معظم البشر يعيشون في مجتمعات متقاربة، واتبعوا ببساطة خيارات الحياة التي سَنَّها لهم آباؤهم وأجدادهم.
لذا نقول ان استشراف المساقبل لا يُعَد ُّ تنبؤاً، والمستقبل ليس قدرا ً غامضاً، مثل بركان أو اعصار، ولكنه قدر نَصنعه أو نُشارك في صناعته، فالتفكير والابتكار هو أساس صنع المستقبل، أو العمل على إنشائه على النحو الذي نطمح إليه ونتمناه، وإذا فَشِلَت التوقعات، فذلك يعني فَشَلَنا في الرؤية والتخطيط، وليس فشل التفكير المستقبلي كمبدأ أو منهج أو فكرة أو عملية أساسية يجب إدخالها في العمليات الإدارية، فضلا ً عن التخطيط الاستراتيجي
مفهوم استشراف المستقبل
استشراف المستقبل هو اجراء عملي وممارسات تنطوي على استقراء التوجهات العامة في حياة الناس، التي تُؤثِّر بطريقة أو بأخرى في مسارات الأفراد والمجتمعات، ولا يَهْدف الاستشراف إلى التَكَهُّن بتفاصيل أحداث المستقبل لتلك الأفراد أو المجتمعات وإنما يهدف إلى رسم ُ نَهْج ٍ استباقي واعتماد سيناريوهات يُمكن تحويلها إلى واقع ملموس يرتقي بالعمل المؤسسي على أُسُس ٍ ومعايير مبتكرة تعود بنتائج ملموسة وايجابية لتحقيق أعلى معدلات رضا المتعاملين، وتحديد الاتجاهات بعيدة المدى التي تؤدي الى زيادة في عائد الاستثمار واستدامة في ديمومة نجاح تلك المؤسسة
لذا عندما نتكلم عن عملية الاستشراف في المؤسسة، فاننا نقصد مجموعة من الفعاليات والاجراءات التي تعمل على تحديث الخطط الاستراتيجية من اجل تحسين عملية صنع القرار، والغاية من هذا التحديث في تلك الخطط ونماذج الاعمال هو تهيئة المؤسسة لمجموعة من الاحتمالات وصياغة توقعات مشروطة، من خلال خلق حلول والتي يُعتقد انها مناسبة لمواجهة مشكلات وتحديات محتملة والتي قد تؤثر سلبا على عمل المؤسسة، وبالتالي تكون الجهة او المؤسسة وحتى الحكومات في موقف افضل اقتصادياً واجتماعياً في المستقبل. لكن السؤال الحقيقي هو كيف لنا أن نقوم بعملية استشراف المستقبل بشكل علمي ومنهجي سليم. مع الأخذ بعين الاعتبار التدابير الواجب اتخاذها وتصحيح الانحرافات إذا حدثت
في الحقيقة، لا يوجد مستقبل واحد مرتبط بعمل او بتوجهات الشركات او المؤسسات، وانما هنالك مجموعة من الاحتمالات التي قد تحدث في المستقبل. لذا مهمة الاستشراف هو الأستعداد لكل تلك الاحتمالات المطروحة من خلال قراءة صحيحة للبيانات المتوفرة عند تلك المؤسسة او الشركة، ومن ثم البدء بجمع المعلومات المستقبلية وصقل البيانات المتوفرة وتحسين العمليات والتي تساعد على وضع رُؤْى مُتوسطة وطويلة الأجل تهدف إلى اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ في الوقت الحاضر، ولا يسعى الاستشراف فقط إلى تحديد المخاطر، ولكن يعمل أيضاً على إيجاد فرص المستقبل لاقتناصها.
فالاستشراف في حقيقة الامر ليس علم التنجيم او اللعب بالبيضة والحجر لوضع تكهنات وأحتمالات غير مدروسة، بل هو علم اصبح يوازي اليوم العلوم الاخرى واصبح له مادة تُدرس في كثير من الجامعات وله قواعد وأصول. واصبحت الدول تعتمده كاستراتيجية يتم وضعها وبناءها من خلال رسم ُ نَهْج استباقي واعتماد سيناريوهات يُمكن تحويلها إلى واقع ملموس يرتقي بالعمل المؤسسي على أُسُس ومعايير مبتكرة، ترتكز على النتائج المُحَقَّقَة لتحقيق أعلى معدلات رضا المواطن اولا والدولة ثانياً.
اذن ما هو استشراف المستقبل؟
تم تعريف استشراف المستقبل من خلال رؤية الاتحاد الأوروبي على أنه: "عملية منهجية تَشاركية تَقوم على جمع المعلومات المستقبلية ووضع رُؤْى متوسطة وطويلة الأجل تهدف إلى اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ في الوقت الحاضر"
وانا استطيع تلخيص مفهوم استشراف المستقبل بالاتي
هو ممارسات تعمل على النظر في تطورات المستقبل واحتياجاته، والقدرة على إدراك الأبعاد المستقبلية، ومن ثم خلق فرص حقيقية تكون مواجهة لتحديات مستقبلية قد تواجه المؤسسة او الشركات من خلال عملية اسستكشاف للغموض القادم من المستقبل بناء على مؤشرات وبيانات حاضرة، يتم على اثرها تحديد الاتجاهات وبناء الخطط المستقبلية لتك الشركات والمؤسسات وكذلك الحكومات
بمفهوم ابسط : في الحروب يكون هنالك جهد استطلاعي لفرق معينة تقوم بعمل استخباري من خلال جمع المعلومات والقراءات للحالة الانية لموقف الحرب والتحديات التي قد تواجه الطرف الاول وما هي الموارد والامكانيات المتوفرة لهذا الطرف، ومن ثم تبدا الممارسات والخطط لوضع احتمالات مستقبلية تستطيع من خلالها الطرف الاول من مواجهة اي تحركات قد تاتي من الطرف الاخر خلال المستقبل المنظور لمواجهة العدو – مختصر مبسط
وعندما اتكلم عن "المستقبل المنظور" فانا اقصد المستقبل الذي بدأ بالفعل ولكنه لم يصل بعد، مثل القطار الذي تحرك من محطة (ِِ1) ويسير إلى الأمام وسيصل إلى محطة (2). ومثال ذلك عدد السكان المتوقع خلال سنة، المستوى التعليمي للطلبة خلال السنتين القادمة، التوجه الاقتصادي في مجال الطاقة خلال الخمس سنوات القادمة.
اذن نستطيع القول ان استشراف المستقبل هو القدرة على النظر في تغيرات المستقبل وتوقعاته، والقدرة على إدراك تلك التغييرات والأبعاد المستقبلية، والعمل على خلق فرص جديدة وتشكيل نماذج اعمال تتماشى مع التغييرات المستقبلية المتوقعة وتشكيل مستقبل جديد اكثر فاعلية يخدم توجهات الشركات والمؤسسات خارج حدود إطار قدراتها الحالية
علماُ ان هنالك فرق بين استشراف المستقبل والتخطيط الاستراتيجي حيث أن الاستشراف يمتد الى اكثر من 10 سنوات أي انه تخطيط طويل المدى ويعتمد على التخيل والابتكار ويعد مدخل من ضمن مدخلات التخطيط الاستراتيجي ويركز تماما على التوجهات المستقبلية، أما التخطيط الاستراتيجي فهو من خمس الى عشرة سنوات أي انه تخطيط قصير المدى و هو تخطيط تشغيلي و تنفيذي ويعد مخرج من مخرجات الاستشراف، كما انه يركز بشكل بسيط على التوجهات المستقبلية.
ان المستقبل هو ملك لمن يستعد له ويساهم في تصميمه وصناعته، لذا فان استشراف المستقبل كما وضحت انفاً هو ليس تنبؤًاً ولا تنجيماً بل هو منهجية علمية من يمتلكها ويعمل على تطبيقها سيتمكن من النجاح في المستقبل ويصبح لاعباً أساسياً فيه.
"استشراف المستقبل ليس مصمماً لحل مشكلاتك الحالية، بل انه مصمم ليصنع فارقا في عالمك"
ما هي المراحل الزمنية لاستشراف المستقبل
اولا: المستقبل القريب: هي المرحلة الزمنية الاكثر ارتباطا بالتحطيط قصير المدى ( من 1 الى 5 سنوات في المستقبل)
ثانيا: المستقبل المتوسط: هي المرحلة الزمنية الاكثر ارتباطا بالتخطيط المتوسط المجى ( من 6 الى 10 سنوات)
ثالثا: المستقبل البعيد: هي المرحلة الزمنية الاكثر ارتباطا بالتخطيط طويل المدى ( من 10 سنوات فما فوق)
استشراف المستقبل وثقافة التغيير
التغيير كمصطلح هو ظاهرة طبيعية، ولكن إذا كان التغيير بدون إدارة لتوجيهه تَحول إلى عشوائية مما يؤدي الى الفوضى والتخبط في ادارة الامور وعدم الاستقرار في القرارات. إن التغيير وسيلة وليس غاية، وإذا تم التغيير بغية تقليد الغير أو التغيير المجرد من الغاية فإنه يُصبح حركة بدون معنى لا يَتْبَعُها تَقَدُّ م على طريق التطوير، ولا يُمكن التصور أن يتم التغيير دون توفر المعلومات اللازمة وفي الوقت المناسب.
لذا ان التغييرات الحاصلة في العالم قد اثرت في معظم نواحي الحياة، وإن
استشراف المستقبل بهذه التغيّرات يُساعد المؤسسات في تَخطي الكثير من
العقبات ، حيث أن التغيير المتسارع الذي حدث في الآونة الأخيرة للعالم في
مجمل نواحي الحياة أثر مباشرة في الممارسات المختلفة، والتي من بينها
الممارسات الإدارية وطبيعة العلاقات التنظيمية، لاسيما في ظل التطورات
التقنية المتسارعة والتحول الرقمي وكذلك تحديات ازمة كورورنا وأبعادها
اللامحدودة، الأمر الذي أبرز حاجة ملحة إلى التنبؤ بمستقبل المؤسسات كونها
جزء من نظام محلي ضمن نظام عالمي أشمل يؤثر في نشاطات وخطط واستراتيجيات
تلك المؤسسات، وبما ينعكس على المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
والتعليمية والصحية والبيئية، حيث شملت إستراتيجية استشراف المستقبل مجالات
عدة منها:
مستقبل رأس المال البشري
مستقبل التكنولوجيا والأنظمة الذكية
مستقبل الاستدامة والبيئة وتغير المناخ
مستقبل البنية التحتية والمواصلات
مستقبل الصحة
مستقبل التعليم
مستقبل الطاقة
مستقبل الاقتصاد والامن الاقتصادي والتجاري
مستقبل الموارد المالية
مستقبل الأمن المائي والغذائي
قياس مؤشرات استشراف المستقبل
يتضمن النموذج العام لقياس مؤشرات خطوات استشراف المستقبل وفقا ً لمنظور «فورس» من خلال أربعة مستويات، تتمثل بما يلي:-
المدخلات: ما الذي يَحدث الآن؟
التحليلي: مالذي فعليا سوف يحدث؟
التفسيري: ما يحدث الان حقاً
المحتمل حدوثه: مالذي قد يحدث؟
لذا ان استشراف المستقبل والاستعداد للمتغيرات المحتملة في السنوات القادمة بما فيها من تطورات وتحديات ليس هو عامل تكميلي للحكومات، بل هو جزء اساسي اليوم لعمل جميع الحكومة والمؤسسات؛ لأن الحكومات الغير المستعدة للمستقبل ستهدر بلا شك سنوات وثروات وهي تعاني وبالتالي سوف ينعكس على مستقبل شعوبها واقتصادها .